معهد فرنسي: الميليشيات والتدخل الأجنبي ساهموا في تقسيم ليبيا منذ رحيل القذافي

نشر المعهد الفرنسي للدراسات الدولية والإستراتيجية دراسة عن تداعيات الركود السياسي في ليبيا، مشيرا إلى أن الميليشيات والتدخل الأجنبي ساهموا في تقسيم البلاد منذ رحيل القائد الشهيد معمر القذافي.
وقال المعهد في دراسته إنه منذ نكبة فبراير 2011، وقعت ليبيا في دوامة من الصراعات السياسية والأمنية الممتدة لما هو أبعد من حدودها وأثرت على المنطقة بأكملها، حيث قسمت الميليشيات البلاد بشدة من دون أي علامة على مصالحة شاملة بينهم، بسبب فشل جميع المحاولات السياسية وجهود البعثة الأممية لتحقيق الاستقرار.
ولفت المعهد إلى أن فشل انتخابات 2021 أعاد إشعال الانقسام السياسي ودفع الحالة إلى الركود الحذر، وجعل ليبيا بؤرة للصراعات الإقليمية والدولية، حيث تتشابك المصالح الاستراتيجية والاقتصادية للقوى الخارجية.
وأضاف قائلا “الفوضى الداخلية والتدخلات الخارجية تعمق الجمود السياسي ويعيق أي مسار نحو تسوية سياسية شاملة، ويعكس الجمود السياسي في ليبيا انقسامات داخلية عميقة، خاصة بين حكومتين متنافستين في شرق وغرب البلاد”.
وشدد على أنه مع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن كلا الجانبين يسعيان للسيطرة على المؤسسات السيادية، ليس فقط لتأكيد شرعيتهما، ولكن أيضًا للوصول إلى الموارد المالية، التي أصبحت محورية في المشهدين السياسي والأمني.
وواصل قائلا “عملية التفاوض من أجل حل شامل ليست معقدة فقط بسبب الخلافات السياسية، ولكن أيضًا بسبب التداعيات الاقتصادية للانقسام نفسه، فوجود حكومتين يزيد الإنفاق ويُفاقم الفساد”.
واستدرك بقوله “غالبًا ما تبدو محاولات توحيد الحكومة وكأنها تعمل ضد مصالح الفصائل المتنافسة، حيث يستفيد كلا الجانبين من الجمود السياسي الذي يحافظ على الانقسام الحالي، فالنفط والأمن يلعبان دورًا كبيرًا كأداة مساومة في المفاوضات السياسية، حيث لجأ القادة السياسيون إلى الجماعات المسلحة والميليشيات لفرض هيمنتهم”.
وتطرق المعهد إلى أن قادة الميليشيات باتوا يطبقون النموذج اللبناني، حيث يسعون حاليا للعب دور سياسي وإنشاء “حكومة ظل”، كما أدى انتشار الجماعات المسلحة وغياب الهياكل الأمنية والعسكرية المنظمة إلى إضعاف السلطة المركزية، مما يجعل أي محاولة لفرض سيادة القانون محكومة بالفشل.
وأشار إلى أنه تلعب العوامل الاجتماعية دورًا كبيرًا في تعميق الانقسامات، حيث يعاني المجتمع الليبي من توترات قبلية وإقليمية وطائفية طويلة الأمد.
وشدد على أنه “تستمر هذه الانقسامات في تشكيل الولاءات السياسية وتعقيد بناء إجماع وطني، واستغل المستفيدون من الوضع الحالي فجوات مثل التوزيع غير المتكافئ للتنمية بين المناطق، والسلطة المركزية، وهيمنة المدن المنتصرة، مما يعيق أي حل سياسي يرضي جميع الأطراف”.
وحذر المعهد من أن البعد الإقليمي هو عامل رئيسي يؤثر على الركود السياسي في ليبيا، حيث لا يقتصر الصراع على الأطراف المحلية فقط، بل يتداخل بشكل كبير مع مصالح الدول المجاورة”.
وقال إن القوى الإقليمية تتنافس على النفوذ في ليبيا، حيث تدعم بعض الدول فصائل مختلفة لتحقيق مكاسب استراتيجية، مما يجعل التسوية السياسية أكثر صعوبة.
وأضاف قائلا “ركزت الدول المجاورة على مصالحها الوطنية بدلاً من اتباع نهج إقليمي شامل، حيث ركزت تعاملاتها مع الأزمة الليبية على اعتبارات أمنية واقتصادية ضيقة، مما أدى إلى اتباع استراتيجيات مختلفة”.
وحذر من أن تدفق المقاتلون والأسلحة عبر حدود ليبيا، يشكل تحدياً أمنياً خطيراً للمنطقة، ويعقد الجهود الرامية إلى استقرار شمال أفريقيا والساحل.
ولفت إلى أنه على الرغم من حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على ليبيا منذ عام 2011، استمر تهريب الأسلحة بمعدل ينذر بالخطر، مشيرا إلى أن ليبيا لا تزال مركزًا رئيسيًا لتهريب الأسلحة إلى دول الساحل، حيث تجد هذه الأسلحة طريقها إلى الجماعات المسلحة في السودان وتشاد، حيث يتم تقدير تداول أكثر من 60 مليون قطعة سلاح متداولة داخل ليبيا.
وانتقلت الدراسة إلى رصد التدخلات الدولية ورصدتها قائلة إنها ” لعبت دورًا محوريًا في تشكيل مسار الصراع، خاصة وأن قرار مجلس الأمن منذ 2011 فتح الباب أمام تدخلات عسكرية غير متوازنة، حيث تتعامل بعض الدول مع الفصائل المسلحة والميليشيات بشكل فردي، متجاوزة قيادة الناتو، مما يعمق نفوذها في ليبيا وعقد الحل السياسي”.
وأردفت قائلة “الركود السياسي في ليبيا ليس فقط نتيجة للانقسامات الداخلية، بل تغذيه عوامل دولية متعددة، حيث لعبت القوى الكبرى دورًا رئيسيًا في إطالة أمد الأزمة من خلال دعم أطراف مختلفة، سياسيًا وعسكريًا”.
وواصلت بقولها “تباين مصالح الدول داخل مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي عام رئيسي في استمرار الأزمة الليبية، كما يظل الوجود العسكري الأجنبي عاملاً رئيسيًا في تشكيل المشهد الليبي، حيث يعمل كأداة موازنة ومحرك للركود السياسي”.
وتطرقت الدراسة إلى التدخل الروسي بقولها إن “موسكو تدير أربع قواعد جوية وبرية في الشرق والوسط والجنوب الليبي بينما تسعى على الأرجح للتوسع البحري عبر الموانئ الليبية، فيما تحتفظ تركيا بثلاث قواعد رئيسية في الغرب”.
وأتبعت قائلة “على الرغم من الدعوات الدولية للانسحاب، تبرر كلتا الدولتين وجودهما من خلال اتفاقيات رسمية مع الفصائل الليبية، مما يعمق الانقسامات الداخلية ويعزز الاعتماد على الأجانب”.
وشددت على أنه “أدى تحول الأولويات الدولية إلى تراجع الاهتمام بالملف الليبي، حيث انشغل المجتمع الدولي بأزمات أخرى، مثل الصراع في غزة، وحرب أوكرانيا، والصراع السوداني، وسقوط النظام السوري، مما جعل الأزمة الليبية تأتي في مرتبة أقل على الأجندة الدولية”.
وأوصى المعهد بأن “الركود السياسي المستمر في ليبيا يمكن أن يؤدي إلى تعقيدات جيوسياسية واقتصادية على المستويين الوطني والإقليمي، حيث سيتسبب في نقص البيانات الدقيقة حول الإنفاق الحكومي مع ارتفاع كبير في مستويات الفساد وتدهور اقتصادي واسع، الذي سيكون له تداعيات مباشرة على الاستقرار الأمني”.
واستمر في توصياته قائلا “في غياب السيطرة المركزية، ستقوم الجماعات المسلحة التي تعتمد على ابتزاز مؤسسات الدولة بتمويل نفسها من خلال مصادر غير مشروعة، مما يؤدي إلى توسيع أنشطة مثل الهجرة غير الشرعية والتهريب والاختطاف والابتزاز”.
وعن الخطر الروسي قال: “بالنسبة لموسكو، فتراجع نفوذها في الشرق الأوسط بعد انهيار النظام السوري وإضعاف إيران، سيجعلها تسعى إلى توسيع نفوذها العسكري والجيوسياسي في ليبيا، وهذا الأمر يمكن أن يؤدي لتصاعد المنافسة والتوترات بين روسيا وتركيا في ليبيا، بعدما كانا يتعاونان تحت مبدأ الشراكة وتقاسم الفرص”.
واستفاض المعهد قائلا “على الصعيد الإنساني، يؤدي الركود السياسي المطول في ليبيا إلى تفاقم المعاناة الإنسانية، حيث يستمر تدهور الوصول إلى الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية والتعليم، بينما تتزايد تقارير عن حالات الاختفاء القسري والتعذيب والنزوح القسري وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان داخل مراكز الاحتجاز”.
ولفت إلى أن “ليبيا تشهد تدفقًا متزايدًا للنازحين من الدول المجاورة التي تعاني من الصراعات، خاصة السودان، حيث تدفع الحرب والانهيار الاقتصادي إلى هجرة جماعية، وقد يزيد هذا التدفق من الضغط على البنية التحتية الإنسانية الهشة في ليبيا، مما يفاقم الوضع المتردي بالفعل”.
وإلى ذلك قال المعهد إنه “إذا استمر الركود السياسي، فقد تتجه ليبيا نحو مزيد من الانقسام، وستتفاقم التحديات بسبب صعود الحركات المتطرفة في سوريا، وانهيار قوات الدعم السريع في السودان، التي قد تلجأ إلى ليبيا”.
وطرح المعهد في دراسته عدد من الفرضيات لحل الأزمة الليبية بقوله إنه “أظهرت المحاولات السابقة لحل الأزمة الليبية، أن اتفاقيات تقاسم السلطة الواسعة بين النخب السياسية المتنافسة غير فعالة على المدى الطويل، كما أنها تعيد إنتاج الأزمات نفسها وتحافظ على وجود الجهات التي تستفيد من الفوضى، لذلك، هناك حاجة إلى إطار جديد لا يعتمد على الحصص السياسية، بل يركز على إعادة بناء الدولة من خلال معايير مؤسسية صارمة”.
وأشار إلى أنه يمكن أن يتفق الأطراف على ميثاق شرف سياسي كآلية للاستقرار مثل اتفاق الطائف في لبنان عام 1989، لنبذ العنف واعتماد الحلول السياسية.
وشدد على أنه “تقف ليبيا عند مفترق طرق، إما أن تستمر في طريق الركود السياسي والاقتصادي، مما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الأمنية والإنسانية، أو أن تعتمد نهجًا شاملاً يعالج الأسباب الجذرية للأزمة”.
وذكر أنه “يتطلب حل الأزمة إصلاحًا سياسيًا تدريجيًا، وتنويعًا اقتصاديًا، وتعزيز آليات العدالة، وتحقيق هذه الأهداف يتطلب إرادة محلية قوية ودعمًا دوليًا حقيقيًا يركز على تمكين المؤسسات بدلاً من مجرد إدارة الصراع”.
وأتم قائلا “أي حل لا يعالج الأسس السياسية والاقتصادية والأمنية لأزمة ليبيا لن يكون سوى هدنة مؤقتة، تؤخر تصعيدًا حتميًا – ليس فقط في ليبيا، ولكن في المنطقة بأكملها”.